انتصار حقيقي
الشيخ ماهر حمود
الشيخ ماهر حمود
لا نحب أن نخوض في جدل عقيم مع الذين يرفضون رؤية الحقائق والتعامل مع الوقائع، ويفضلون أن يكون موقفهم نابعاً من الانغلاق على الذات واختراع أوهام يتم التعامل معها كأنها حقائق دامغة، وسنعدد من جهتنا ما يؤكد أن المقاومة انتصرت، وكذلك لبنان، وسنتجاوز عن الرأي المعاكس، مع تأكيدنا أن ثمة سلبيات تجب الإشارة إليها، وقد تكون الإشارة إليها في جلسات مغلقة أجدى نفعاً:
أولاً، الأهداف: ظلت الصواريخ والمسيرات حتى لحظة وقف إطلاق النار تنطلق من لبنان وتصيب أهدافاً عسكرية وأمنية في غاية الأهمية. والهدف الذي وضعه الصهيوني لهذه الحرب، وهو القضاء على حزب الله لم يتحقق، ولم تتحقق ضمناً عودة «المستوطنين» إلى المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة. وقد اعتدنا تاريخياً أن يكون تحديد المنتصر هو تحقيق الأهداف وليس حجم الخسائر.
ثانياً، قبول نتنياهو بالاتفاق: استمعنا إلى تسجيل لنتنياهو عام 2006، ولم يكن رئيس وزراء وقتها، ينتقد القرار (1701) ويعتبر أنه يحضّر لمعركة أخرى، باختصار نتنياهو ليس مع هذا القرار، ولكنه اضطر إلى القبول به لمنع تساقط الصواريخ والمسيرات على مناطق الكيان كافة، بما ذلك تل أبيب، وكلها أهداف دقيقة، وتجاوز عن كثير من البنود غير الواضحة، وأهمها عدم تحديد أسماء اللجنة المشرفة على تنفيذ الاتفاق.
ثالثاً، استهداف المدنيين: نفذ الصهيوني عشر ضربات حقيقية، خاصة ابتداء من 17 أيلول، أي من عملية (أجهزة النداء) وصولاً إلى اغتيال القائد الاستثنائي الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله وعدد من القادة، نعم كانت ضربات ثقيلة جديرة بأن تشل المقاومة وتدفعها إلى «الاستسلام»، ولكن ذلك لم يحصل، والذي حصل أن الصهيوني ركّز بعد ذلك على أهداف وهمية مدنية في قلب بيروت وبعلبك، وغيرهما، في تغطية لفشله في الحصول على أهداف حقيقية بعد الأهداف الأولى، وتركيزه على المدنيين دليل حقيقي على هزيمته وعجزه عن توجيه ضربات حقيقية بعد تلك الضربات «القاتلة».
رابعاً، الناس: فلنقارن بين جمهور المقاومة في جنوب لبنان والضاحية والبقاع كيف استقبل وقف إطلاق النار، وكيف تعامل الجمهور الصهيوني مع وقف النار ببرود، ورفض المستوطنون رغم الإغراءات العودة إلى المستوطنات)؟.
خامساً، التأكيد على وحدة الساحات ووحدة الأمة ورفض التجزئة. والمضحك المبكي كيف كان الجمهور المعارض للمقاومة يسخر من شعار وحدة الساحات ويتهم حزب الله بالتخاذل في الأشهر الأولى، وكيف أصبح يتهم حزب الله بأنه استدرج العدو إلى معركة حقيقية كنا في غنى عنها. لقد تأكد الشعار القرآني (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) (الانفال).
إن التأكيد بالدم والدمار على وحدة الأمة وتحطيم الحواجز المذهبية والإقليمية يستحق كل هذه التضحيات.
سادساً، هزالة المنطق المخالف. إذ يتحدث أخصام المقاومة عن حصر السلاح بالدولة وجيشها، كشعار رئيسي، وحتمية أن يكون قرار الحرب والسلم بيد الدولة، وهم أنفسهم عملوا على إضعاف هذه الدولة وأسهموا بشكل أو بآخر في نهب الدولة والتعامل معها كمزرعة وبقرة حلوب، أو كأكلة الجبنة بحسب تعبير الرئيس الراحل فؤاد شهاب، وهم يعلمون أن القرار الدولي وجزءاً كبيراً من الرأي المحلي يمنع الجيش من التسلح الحقيقي، كما أن الانقسام الداخلي الذي برز خاصة عبر تجاوز اتفاق الطائف والمصلحة الوطنية بتعطيل توظيف موظفين من الفئة الرابعة، يؤكد أن أحداً من أصحاب هذا الشعار لم ولن يسهم في بناء دولة حقيقية.
الانقسامات الداخلية والسيطرة الخارجية على قرار الدولة، والركام من الأخطاء والفساد وعدم وجود بوادر لإصلاح حقيقي، كل ذلك وغيره يجعل شعار حصرية السلاح بيد الدولة، شعاراً وهمياً لذر الرماد في العيون.
سابعاً، المبدأ: إن خوض حزب الله معركة الإسناد وصولاً إلى عدوان أيلول يؤكد مبدأ يرتبط بالعقيدة الإسلامية والانتماء العروبي، وبعض اليسار العالمي وكثير من أحرار العالم، ألا وهو حتمية مواجهة هذا النظام العنصري التوسعي المسمى إسرائيل، وصولاً إلى زوال هذا الكيان المصطنع، وهو أمر يعيش في وجدان الصهاينة جميعا من دون استثناء، كما يشير إلى ذلك الحوار الذي فتحه رئيس الحكومة الأسبق ايهود باراك حول عمر هذا الكيان الذي لن يدوم حسب «الثقافة الإسرائيلية» أكثر من ثمانين عاماً.
طوفان الأقصى وحرب الإسناد وعدوان أيلول ومشاركة المحور من اليمن إلى العراق وغيرهما، كل ذلك جزء لا يتجزأ من حركة التاريخ التي تسير باتجاه واحد لا غير ألا وهو زوال هذا الكيان.
إن فريقاً من اللبنانيين وكثيراً من العرب والمسلمين لا يشاركوننا هذه القناعة، ولا يمكن لنا التنازل عن المبدأ لإرضاء أخصام لا يستندون إلا على أوهام وأحقاد، كما أن أفكارهم تتأثر بالعدو مباشرة أو بشكل غير مباشر.
ثامناً، الشهداء والدمار: عبرت المقاومة عن هذا الجانب عبر الآية الكريمة «وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا» (النساء - 104)، نعم تألّمنا وتألم النازحون وأهالي الشهداء والجرحى وذاقوا مرارة كل ذلك، ولكن في المقابل العدو أيضاً تألم كثيراً، وقد يكون ألمه أكبر لأن المقاومة أصابت فكرة الكبار الرئيسية كوطن آمن لصهاينة العالم، وهذه الفكرة أصيبت في الصميم، كما أن نمط الحياة في الأرض المحتلة يجعل خسائرهم نسبياً أهم مما نُصاب به، ونحن أهل الصبر والإيمان.
نعم كان يمكن لهذه الخسائر أن تكون أقل من ذلك بكثير لو أن المجتمع الدولي، كما يسمونه، والمجتمعات والحكومات العربية والإسلامية، كانت أوعى مما رأينا، ولو كان ثمة بقية باقية من دين أو إنسانية أو مبدأ عند هؤلاء، كان يمكن أن تكون المجازر والدمار أقل من ذلك بكثير ، ولكن!
وقد قلنا مراراً كان يمكن للمواقف العربية الإسلامية أن تكون أفضل بكثير، وأن تصل إلى مستوى المعارضة الصهيونية الداخلية التي كانت، وللأسف، أهم بكثير من مواقف القمة العربية – الإسلامية.
تاسعاً، مقاومة لا ترتبط بشخص: إن آفة حركات المقاومة والتحرير أنها ترتبط بقيادة واحدة تقوم معها وتغيب معها، وأثبتت المقاومة في لبنان أنها «مؤسسة» لها قائد فذ استثنائي، ولكنه لا يختزلها بشخصه، وهذا أمر في غاية الأهمية، وكأنها استحضرت الآية الكريمة «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» (آل عمران - 144).
عاشراً، دور إيران: يعيش أخصام المقاومة أوهاماً كبيرة في ما يعني دور إيران، وكذلك إسرائيل، المنهزمة في بُعد من الأبعاد أمام المقاومة، تربأ بنفسها أن تقول هزمني حزب أو فئة صغيرة في بلد صغير، فيتعمّد نتنياهو وغيره التركيز على الدور الإيراني وتضخيمه، حتى يقول هُزمتُ أمام دولة كبيرة، والحق أن ايران تدعم المقاومة لا شك، ولكن المقاومة محلية بكل إنجازاتها.
أما في الداخل اللبناني، فإن من المضحك المبكي أن تتحدث فئات متعددة عن التبعية لإيران والخضوع لولاية الفقيه، فيما جميعهم يعيشون تبعية قبيحة للأميركي أو للسعودي أو غيرهما، والحق يُقال إنه لا مجال للمقارنة بين علاقة إيران بحزب الله، من حيث الاحترام وتقدير الظروف واتخاذ القرارات المهمة، وبين الفئات الأخرى حيث تدخّل الأميركي، على سبيل المثال، بتفاصيل إنشاء حركة 14 آذار وفي كل القرارات الصغيرة والكبيرة. أما السعودي فألغى بشحطة قلم تياراً حقيقياً يمثل جزءاً وازناً من اللبنانيين ومنعه من خوض الانتخابات والعمل السياسي، هل مثل هذا يحصل مع ولاية الفقيه؟
ومن جهة أخرى، فلنقارن بين حركة الجنود الأميركيين من وإلى مطار حامات العسكري، ومطار رياق، وحركة الطيران المروحي من السفارة الأميركية إلى قبرص والعكس، من دون الخضوع إلى أي رقابة لبنانية، ثم يتحدثون عن السيادة والتبعية؟ وغير ذلك كثير.
حادي عشر، لا نستطيع التنازل عن قناعتنا بجدوى المقاومة لأوهام يعيشها الآخرون. نحن على طريق ذات الشوكة (بحسب التعبير القرآني)، والآخرون يحاولون التمتع بحياة ملؤها الذل والهوان والتبعية، وشتان بين الأمرين، «وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ» (هود - 122).